وصف المدون

الأخبار الأن

  



أثار كتاب الأستاذ الضاوي موسى "أعلام الزيتونة بتطاوين" في نفسي اهتمامًا كبيرًا، لما سلطه من ضوء على الدور البارز الذي لعبته المؤسسة الزيتونية في دعم حكومات ما بعد الاستقلال من خلال الإسهام الفعّال في إدارة شؤون الدولة، خاصة في مجالات الإدارة، التعليم، والقضاء. كما أبرز الكتاب مساهمة الزيتونة خلال فترة الاستعمار الفرنسي في الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، والتصدي لمشاريع الفرنسة والتغريب، على خلاف ما حدث في دول الجوار، خصوصًا الجزائر.

شكّل الاستقلال السياسي لتونس سنة 1956 لحظة حاسمة في تاريخها الحديث، إذ وجدت الدولة الوطنية الناشئة نفسها أمام تحديات كبرى، في مقدّمتها الحاجة إلى نخبة مؤهلة تتولى إدارة مؤسسات الدولة وبناء أركانها. وفي هذا السياق، برز الدور الحيوي لكل من جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية. فقد ساهمت الزيتونة، برصيدها العلمي والتقليدي العريق، في إعداد كوادر متمكنة في العلوم الدينية واللغوية، بينما لعبت المدرسة الصادقية، التي أسسها الوزير خير الدين باشا عام 1875، دورًا تكميليًا في تكوين نخبة مزدوجة الثقافة، تجمع بين التكوين الزيتوني الكلاسيكي والتعليم العصري الأوروبي، ما مكّنها من الإسهام الفاعل في إرساء أسس الدولة الحديثة.


جامع الزيتونة: منارة علمية ومصدر للوعي الوطني


يُعد جامع الزيتونة من أبرز المعالم الحضارية والدينية في تونس، إذ مثّل عبر القرون مركز إشعاع علمي وثقافي استقطب آلاف الطلبة من داخل البلاد وخارجها. وخلال الحقبة الاستعمارية، أدّى دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الوطني، عبر ترسيخ الثقافة العربية الإسلامية ومقاومة محاولات التغريب.

ولم يتوقف أثر الزيتونة عند فترة ما قبل الاستقلال، بل تواصل بعده من خلال مساهمة خريجيه في بناء الدولة التونسية الحديثة. وقد مثّل هؤلاء قاعدة بشرية مؤهلة على مستوى الإدارة والتعليم والقضاء، كما حملوا تكوينًا علميًا موسوعيًا ووعيًا وطنيًا عميقًا، مما جعلهم فاعلين في بلورة المشروع الوطني للدولة المستقلة.

كان لخريجي الزيتونة بفرعيها: الجامع الأعظم والخلدونية، مع خريجي المدرسة الصادقية دور مهم في قيادة مؤسسات الدولة، وتحديث الإدارة، ودعم المشروع الوطني ثقافيًا وتربويًا، وذلك بسدّ النقص الحاد في الكوادر التربوية والإدارية، ما جعل منهم ركيزة أساسية في عملية البناء الوطني. 


تجربة تونس مقارنة بدول الجوار

وعلى خلاف بعض الدول المغاربية المجاورة، مثل الجزائر وليبيا، التي اضطرت إلى استقدام مدرّسين من المشرق العربي لسدّ النقص في تأطير تعليم اللغة العربية، استفادت تونس من رصيدها البشري المحلي الذي وفّرته مؤسستا جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية. فعلى الرغم من التهميش الذي طال جامعة الزيتونة بعيد الاستقلال، ثم غلقها لاحقًا وتعطيل دورها التعليمي الرسمي وتجفيف مواردها المالية من خلال إلغاء الأوقاف، نتيجة توجّه الدولة ذي النزعة التغريبية، فإن تأثير خريجيها ظل ملموسًا بقوة في عدة مجالات: منابر المساجد، ساحات القضاء، مؤسسات التعليم، الصحافة، وحتى في المشهد الثقافي والفكري الوطني. وقد شكّل هؤلاء الخريجون نواة صلبة لقطاع التعليم، خاصة خلال العقدين الأولين بعد الاستقلال (1956–1976)، حيث تولوا مهمة تدريس اللغة العربية والمواد الإنسانية في مختلف أنحاء البلاد. في المقابل، لم تكن الحاجة لاستقدام مدرسين من الخارج ومن فرنسا خصوصا، الا للغة الفرنسية والمواد المتعلقة بها الى غاية تخرّج دفعات جديدة من النظام التعليمي العصري في منتصف السبعينيات.

لم يقتصر دور خريجي الزيتونة على المستوى المحلي، بل تجاوز الحدود، حيث ساهم عدد منهم في بناء مؤسسات تعليمية ودينية في الجزائر وليبيا، بفضل مكانتهم العلمية وانضباطهم. كما كان لجامع الزيتونة الدور الملحوظ في دعم حركات التحرر في المنطقة، عبر تلامذته الذين رفعوا شعارات مقاومة الاستعمار والدعوة إلى الاستقلال.

في النهاية، وليس من المبالغة في القول بأن جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية كانا دعامتين أساسيتين في بناء الدولة التونسية بعد الاستقلال: وفّر الأول قاعدة معرفية متينة في اللغة والعلوم الدينية والإنسانية، في حين قدّمت الثانية كفاءات قادرة على التعامل مع الحداثة دون المساس بالهوية. وهذا ما يجعل التجربة التونسية نموذجًا متميزًا في السياق الإقليمي والعربي.


محمد علي العمــــــــاري

إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع

Back to top button