في لحظة فارقة من المشهد التشريعي والاجتماعي، صادق مجلس نواب الشعب التونسي مساء الإثنين 20 ماي 2025، على مشروع القانون المتعلق بمنع عقود المناولة في القطاعات العمومية والحيوية. هذه الخطوة التشريعية، التي طال انتظارها، تُعدّ استجابة صريحة لمطلب اجتماعي مزمن وملحّ، طالما رفعه العاملون والنقابات منذ أكثر من عقدين.
المتعلق بعقود الشغل في بابه الاول على أن العقد غير محدد المدّة هو الصيغة الطبيعية والأصلية للتشغيل، أما العقود محددة المدّة، فهي استثناء لا يُسمح باللجوء إليه إلا في حالات خاصة ومبرّرة، مثل ارتفاع مؤقت في حجم النشاط، أو تعويض عامل متغيب، أو إنجاز أعمال موسمية. كما تم تحديد فترة التجربة بستة أشهر، قابلة للتجديد مرة واحدة، بهدف تحقيق توازن بين استقرار العامل ومرونة المؤسسة.
وفيما يتعلق بمنع المناولة الذي ورد في الباب الثاني فقد منع القانون تشغيل العمال عن طريق أطراف ثالثة في المهام الأساسية والدائمة داخل المؤسسات، سواء كانت عمومية أو خاصة. ويُسمح فقط ببعض التدخلات الفنية أو الظرفية، بشرط ألا تتحول إلى وسيلة للالتفاف على الحقوق القانونية للأجراء.
أما باب العقوبات، فقد تضمّن إجراءات صارمة تهدف إلى فرض احترام القانون من من بينها خطايا مالية تقدر ب 10الاف دينارعلى كل شخص طبيعي يخالف احكام هذا القانون وتضاعف العقوبة اذ كان مرتبك المناولة شخصا معنويا .
كما يعاقب بخطية قدرها 10الاف دينار الممثل القانونية للمؤسية أو مسبرها في صورة ثبوت تورطه في انتداب إجراء في اطار مناولة اليد العامة.
وفي صورة العود يعاقب مرتبك جريمة مناولة اليد العامة سواء كان شخص طبيعي أو الممثل القانونية للمؤسية المختلفة أو مسبرها بالسجن مدة 3اشهر وستة أشهر
تضمن القانون أيضا أحكاما انتقالية تمنح المؤسسات مهلة لتسوية وضعياتها القانونية، بما يضمن تطبيق الإصلاحات الجديدة دون إرباك مفاجئ لدورة الإنتاج أو للعلاقات التعاقدية القائمة
تحوّل نوعي في منطق الدولة تجاه سوق الشغل
القانون الجديد لا يكتفي بحظر عقود المناولة في صيغتها التقليدية، بل يعكس تحوّلًا جذريًا في فلسفة الدولة تجاه سوق الشغل، حيث يُعيد الاعتبار إلى مبدأ العمل القار، وينتصر لمفاهيم العدالة الاجتماعية، والمساواة داخل المؤسسات، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار المهني والنفسي للأجراء.
السياق والدوافع: عقود المناولة كآلية تفكيك اجتماعي
لا يمكن قراءة هذا القانون خارج سياقه التاريخي، حيث استخدمت عقود المناولة – منذ أواخر التسعينات – كآلية التفافية لتقليص التكاليف على المؤسسات، لكنها تحوّلت تدريجيا إلى أداة لتفكيك الاستقرار الاجتماعي، من خلال خلق طبقة من العاملين دون أفق مهني، محرومين من الضمانات الأساسية، كالتغطية الاجتماعية، والتدرج المهني، وحقوق التفاوض الجماعي.
وقد أظهرت دراسات ميدانية، خاصة في قطاعي التعليم والصحة، أن أكثر من 30 ألف عامل يعملون في ظروف "هشة جدًا"، وبأجور دون الحد الأدنى القانوني، عبر شركات وسيطة، لا تتحمل أي مسؤولية اجتماعية أو قانونية تجاههم.
قراءة سياسية: هل هو انتصار للنقابات أم بداية تجفيف موارد الفساد؟
رغم أن القانون جاء في ظاهره استجابة لمطالب الاتحاد العام التونسي للشغل، إلا أن محللين يرون فيه بعدًا أعمق يرتبط بإعادة ضبط منظومة التوظيف العمومي، ومحاولة تجفيف منابع الريع والفساد الإداري، حيث استُعملت المناولة في فترات سابقة كأداة لتشغيل المحاسيب، أو تمرير صفقات غير شفافة.
كما يعكس التشريع الجديد ميلًا متصاعدًا داخل البرلمان التونسي نحو إحياء دور الدولة الاجتماعي، بعد سنوات من السياسات الليبرالية التي قلّصت تدخل الدولة في التوظيف والرقابة.
الاكيد انه رغم الطابع التقدّمي للقانون، فإن المخاوف تبقى قائمة من حيث القدرة الفعلية على تطبيقه، خاصة في ظل الصعوبات المالية والهيكلية التي تواجهها المؤسسات العمومية. فإدماج آلاف العمال يتطلب اعتمادات ضخمة، وإعادة تنظيم إداري ومالي، في وقت تعاني فيه الدولة من ضغوطات الميزانية والاقتراض الخارجي.
في المقابل، يرى أنصار القانون أن "الكلفة الاجتماعية لعدم الإصلاح أكبر بكثير من كلفة الإدماج"، مؤكدين أن استقرار الشغل يولّد مردودية اقتصادية أعلى، ويقلّل من التوترات الاجتماعية.
الثابت ان القانون الجديد ليس مجرد وثيقة تشريعية، بل هو اختبار حقيقي لقدرة الدولة التونسية على تنفيذ التزاماتها الاجتماعية. فبين ترحيب آلاف العمال، وتخوّف بعض المستثمرين من تقييد حرية التشغيل، تقف البلاد اليوم أمام مفترق طرق: إما تكريس دولة العدالة والكرامة، أو التراجع تحت ضغط التكاليف والهياكل البيروقراطية.
ما هو أكيد، أن منع عقود المناولة، في حال تنفيذه فعليًا، سيشكّل علامة فارقة في التاريخ الاجتماعي لتونس الحديثة، ويفتح الباب أمام إعادة تعريف علاقة الشغل، على أساس الكرامة، والاستقرار، والمسؤولية.
صدى العالم نيوز